"يشكل التعليم حقاً أساسياً من حقوق الإنسان وواجباً جوهرياً من واجبات الدول. وهو ليس امتيازاً من امتيازات الأغنياء والميسورين وإنما حقاً غير قابل للتصرف من حقوق كل فرد. وتتحمل الدولة المسؤولية الرئيسية عن توفير التعليم مباشرة. بيد أن التعليم بصفته وظيفة عامة من وظائف الدول يشهد تراجعاً بفعل النُّهُج التي تحركها السوق والنمو السريع للمؤسسات الخاصة في ظل رقابة ضعيفة من جانب السلطات العامة. وتؤثر الخصخصة سلباً على الحق في التعليم باعتباره استحقاقاً وكذلك باعتباره عامل تمكين. فهي تغذّي الإقصاء والتهميش وتقوّض المبدأ الأساسي المتمثل في تساوي الفرص في مجال التعليم. كما تتسبّب في تراجع الاستثمار في التعليم العام." كيشوري سينغ - المقرر الخاص المعني بالتعليم .
لازال العالم متأثراً بتداعيات جائحة كورونا ( كوفيد-19 ) على كافة نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية والتضامنية. لابل فإن هذه التداعيات تحتاج الى دراسة آثارها وامتدادها ليشمل الاجيال القادمة وانعكاساتها على ديمومة الكائن البشري.
ومن اهم مظاهر التأثير لفيروس كورونا المستجد أثره على التعليم حيث اشارت المقررة الخاصة المعنية بالتعليم كومبو بولي باري في تقريرها الى مجلس حقوق الانسان الى ان نظم التعليم العام تعاني من الضغط ونقص التمويل، وأوجه عدم المساواة في التعليم تظل مذهلة، والحصول على التعليم يشكّل حلماً بالنسبة للكثيرين، و258 مليون طفل وشاب، بمن فيهم الأطفال ذوو الإعاقة، كانوا بالفعل خارج المدرسة قبل الجائحة . واليوم، مازال حوالي 773 مليون شخص يعاني من الأمية؛ ومن بينهم نساء كثيرات يعشن في بلدان منخفضة الدخل. وقد أدّت الأزمة إلى تفاقم كبير في المشاكل الموجودة والمرتبطة بإعمال الحق في التعليم. وإذا كان من المهم تقييم أثر الأزمة، فإنه من المهم أيضاً أن نعترف كيف أن بعض سمات النظم التعليمية الحالية قللت إلى أدنى حد التبعات السلبية (أو الإيجابية) لأثر أزمة "كوفيد-19"، أو ضخّمتها إلى أقصى حد. وعلى وجه الخصوص، بات التمييز الهيكلي جلياً على نحو كبير خلال أزمة التعليم وتضررت منه على الخصوص الفئات الأكثر تهميشاً وضعفاً. وعلاوة على ذلك، من المرجّح أن تكون أزمة التعليم قد أثّرت على نحو أشد في البلدان حيث تعاني نُظم التعليم العام من الهشاشة وتنعدم الثقة المتبادلة بين المواطنين والمؤسسات العامة ويغيب الحوار الاجتماعي مع نقابات ورابطات المعلمين وتنعدم ثقافة التشجيع على إرساء علاقة وثيقة بين المدارس والأسر والمجتمعات المحلية.
واشارت د.كومبو كذلك الى انه لم تؤثر أزمة "كوفيد-19" في المتعلمين فحسب، بل في المعلمين أيضاً. ووفقاً لليونسكو، تضرّر 63 مليون معلم بالتعليم الابتدائي والثانوي من الاضطرابات غير المسبوقة التي تسبّبت فيها جائحة "كوفيد-19. ولم يشمل هذا العدد معلمي المرحلة قبل الابتدائية وأساتذة التعليم العالي، وسائر الموظفين الآخرين بالمؤسسات التعليمية، مثل المعلّمين المؤقتين أو المشاركين، والأشخاص الذين يقدّمون دعماً إضافياً للمتعلّمين ذوي الإعاقة أو الاحتياجات الخاصة، وموظفي الإدارة والنظافة والأمن، وعمال المطاعم المدرسية، وسائقي الحافلات.
وفيما يتعلق بخصصخة التعليم علقت المقررة الخاصة المعنية بالتعليم د.كومبو بولي الجرس حول تفاقم المشكلة حيث اشارت الى الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تعاني منها جميع البلدان، بما في ذلك زيادة المديونية، تخشى المقررة الخاصة تخفيضاً كبيراً في الميزانيات المخصّصة لقطاع التعليم العام الذي أثبت رغم ذلك أهميته الحاسمة في أوقات الأزمات، بما في ذلك أزمة فيروس كورونا المستجد ( كوفيد-19) ومن شأن حدوث تراجع كبير في تمويل المدارس العامة إلى تراجع نوعية التعليم وإمكانية الحصول عليه، وإلى زيادة انتشار المدارس الخاصة ذات الرسوم المنخفضة وغير ذلك من عمليات الخصخصة نتيجة تزايد عجز الحكومة عن تلبية الاحتياجات، مما يؤدي إلى اعتماد أو إعادة اعتماد الرسوم المدرسية وانخفاض معدلات التسجيل. وقد تفضي الزيادة المحتملة في الشراكات بين القطاعين العام والخاص في فترة ما بعد الأزمة إلى زيادة أوجه عدم المساواة في التعليم، مع مشاركة ومسؤولية ضعيفتين من المواطنين. ومما يثير القلق بشكل خاص التخفيضات المحتملة في ميزانية التعليم الشامل.
وقد حذر المقرر الخاص المعني بالتعليم السابق كيشوري سينغ _ في تقريره لمجلس حقوق الانسان في دورته التاسعة والعشرين تحت البند الثالث حول تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان، المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك الحق في التنمية _ الى خطورة مضاعفات الاستغلال التجاري للتعليم وتحريره المطلق. والى السعي نحو تحقيق أهداف ربحية هذا الامر يتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ومنذ عام 1980 واستراتجيات البنك الدولي لقطاع التعليم تؤكد على الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في مجال التعليم وأجبرت البلدان النامية على إجراء تخفيضات مهمة في إطار التكييف الهيكلي لخدماتها العامة، بما فيها التعليم. وتولي الاستراتيجية الأخيرة التي وضعها البنك الدولي بشأن التعليم، أي استراتيجية قطاع التعليم لعام 2020 (الصادرة في عام 2011)، أهمية متزايدة لمشاركة القطاع الخاص في التعليم؛ وذلك على غرار ما تفعل الشراكة العالمية من أجل التعليم.
وهذا التدخل في إعمال الحق في التعليم يقوضه ويعتبر عقبة امام تطوره وتمتع جميع الافراد بالحقوق والحريات الاساسية لارتباط الحق في التعليم بمنظومة حقوق الانسان بصورة متكاملة وغير قابلة للتجزئة. واعلان مسؤولية الدولة في ضمان حماية الحق في التعليم. وقد اشارت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 13 الى إن الحق في التعليم لا غنى عنه لإعمال حقوق الإنسان الأخرى ، بوصفه حقاً تمكينياً، هو الأداة الرئيسية التي يمكن بها للكبار والأطفال المهمَّشين اقتصادياً واجتماعياً أن ينهضوا بأنفسهم من الفقر وأن يحصلوا على وسيلة المشاركة كلياً في مجتمعاتهم. وللتعليم دور حيوي في تمكين المرأة، وحماية الأطفال من العمل الاستغلالي والذي ينطوي على مخاطر، وكذلك من الاستغلال الجنسي، وفي تشجيع حقوق الإنسان والديمقراطية، وحماية البيئة، ومراقبة نمو السكان. ويُعترف بالتعليم بشكل متزايد بوصفه واحداً من أفضل الاستثمارات المالية التي يمكن للدول أن تستثمرها. ولكن أهمية التعليم ليست أهمية عملية وحسب، فالعقل المثقف والمستنير والنشط القادر على أن يسرح بحرية وإلى أبعد الحدود هو عقل ينعم بمسرّات الوجود ومكافآته.
وذكر المقرر الخاص السابق الى ان اليونسكو والمنظمة الدولية للفرنكفونية اعربا عن القلق إزاء الخصخصة التي اكتسحت قطاع التعليم وحولته إلى مجرد سلعة و ظاهرة شبه سوقية في قطاع التعليم. والى ان استحقاق التعليم من حيث حصول الجميع عليه يمثل شرطاً أساسياً لممارسة الحق في التعليم. غير أن الخصخصة تغذي الإقصاء لأن الشرائح الأفقر لا تستطيع الوصول إلى المدارس الخاصة. ويؤدى هذا الأمر إلى تفاقم الفوارق في الحصول على التعليم ومن ثم إلى مزيد تهميش الفقراء. وزيادة على ذلك، فإن مخططات القسائم الهادفة إلى تمكين أولياء الأمور الفقراء من اختيار مدرسة خاصة هي في الواقع مخططات تشجّع على التمييز الطبقي.
والحق في التعليم، ككل حقوق الإنسان، يفرض ثلاثة أنواع أو مستويات من الالتزامات على الدولة اولها يتطلب الالتزام بالاحترام من الدولة أن تتحاشى التدابير التي تعرقل أو تمنع التمتع بالحق في التعليم. وثانيها يتطلب الالتزام بالحماية من الدولة أن تتخذ تدابير لمنع الغير من التدخل في التمتع بالحق في التعليم. وثالثها يتطلب الالتزام بالأداء (بالتسهيل) من الدولة أن تتخذ تدابير إيجابية تمكِّن الأفراد والجماعات وتساعدها على التمتع بالحق في التعليم.
ويعتبر المقرّر الخاص السابق أنه من الضروري عند النظر في خصخصة التعليم مراعاة التزامات الدول إزاء احترام الحق في التعليم: يجب على الدول أن تضمن تعزيز الحق في التعليم واحترامه وإعماله.وهذا ما اكدته اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تعليقها رقم 13 المشار اليه اعلاه الى ان مسؤولية الدولة في إعمال الحق في التعليم يتطلب أن تتوافر مؤسسات وبرامج تعليمية بأعداد كافية.ويجب أن تكون المؤسسات والبرامج التعليمية سهلة الوصول للجميع، دون أي تمييز، في نطاق اختصاص الدولة الطرف. ولإمكانية الالتحاق ثلاثة أبعاد متداخلة هي عدم التمييز بحيث يجب أن يكون التعليم في متناول الجميع، ولا سيما أضعف الفئات، في القانون وفي الواقع، دون أي تمييز لأي سبب من الأسباب المحظورة.والى إمكانية الالتحاق المادي حيث يجب أن يكون التعليم في المتناول من الناحية المادية السليمة، وذلك إما عن طريق التردد على التعليم في موقع جغرافي ملائم بشكل معقول (مثل مدرسة تقع بالقرب من المسكن) أو من خلال التكنولوجيا العصرية (مثل الوصول إلى برنامج "للتعليم عن بعد") .واخيرا إمكانية الالتحاق من الناحية الاقتصادية حيث يجب أن يكون التعليم في متناول الجميع. وهذا البعد لإمكانيات الالتحاق يخضع للصياغة المتمايزة للمادة 13(2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيما يتصل بالتعليم الابتدائي والثانوي والعالي: ففي حين أنه يجب أن يوفر التعليم الابتدائي "مجاناً للجميع" فإن الدول الأطراف مطالبة بالأخذ تدريجياً بمجانية التعليم الثانوي والعالي.
واشار التعليق العام ذاته الى انه يجب أن يكون شكل وجوهر التعليم، بما في ذلك المناهج الدراسية وأساليب التدريس، مقبولين (مثل الملاءمة ذات الصلة من الناحية الثقافية والجودة) للطلاب و، في الحالات المناسبة، للوالدين؛ وهذا يخضع للأهداف التعليمية المطلوبة في المادة 13(1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وما قد توافق عليه الدولة من معايير تعليمية دنيا.بالاضافة الى انه يجب أن يكون التعليم مرناً كيما يتسنى له التكيف مع احتياجات المجتمعات والمجموعات المتغيرة وأن يستجيب لاحتياجات الطلاب في محيطهم الاجتماعي والثقافي المتنوع.
ومن المبادئ الراسخة في قانون حقوق الإنسان أن الدولة تظل مسؤولة عن التزاماتها حتى عند خصخصتها. وقضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأنه لا يمكن لدولة بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التملص من مسؤوليتها بتفويض التزاماتها إلى المدارس الخاصة. ويعزَّز هذا الموقف بالمبادئ التوجيهية المتعلقة بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان التي تؤكد أن الدول عندما تفوّض مسؤولياتها إلى أعمال تجارية فإنها تظل مسؤولة عن ضمان وفاء تلك الشركات بالتزاماتها فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
وتبقى الدولة المسؤولة الرئيسية عن التعليم وفقاً للالتزامات القانونية الدولية ولا يمكنها أن تتخلى عن وظائفها الرئيسية في مجال الخدمات العامة. وكما أفادت المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية في حكمها التاريخي في قضية براون ضد مجلس التعليم (1954)، فإن "توفير المدارس العامة هو أسمى وظيفة تضطلع بها الدولة" و"التعليم هو ربما أهم وظيفة تضطلع بها الدولة والحكومات المحلية.ومع ذلك، فإن الحكومات، بدلاً من أن تراقب نمو التعليم الخاص والهادف إلى الربح، غالباً ما تدعم المؤسسات الخاصة بالإعانات والحوافز الضريبية وتتخلى من ثم عن وظيفتها العامة الرئيسية. ونتيجة لذلك، تحل المؤسسات الخاصة محل التعليم العام وتتاجر من ثم بالتعليم بدلا من أن تكمّل الجهود الحكومية.
الآثار السلبية للخصخصة على المبادئ والمعايير الأساسية التي يقوم عليها الحق في التعليم
خصخصة التعليم تنتهك المبادئ والمعايير الاساسية للحق في التعليم ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أولا : عدم التمييز
واشارت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها رقم 20 الى ان التمييز يقوِّض إعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لنسبة كبيرة من سكان العالم. فالنمو الاقتصادي، في حد ذاته، لم يؤدِّ إلى تنمية مستدامة، ولا يزال أفراد ومجموعات من الأفراد يواجهون عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، بسبب أشكال مترسخة من التمييز، تاريخية ومعاصرة، في أغلب الأحيان.
والى ان المساواة وعدم التمييز عنصران أساسيان في القانون الدولي لحقوق الإنسان ولا غنى عنهما لممارسة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتمتع بها. فالفقرة 2 من المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (العهد) تُلزم كل دولة طرف "بأن تضمن جعل ممارسة الحقوق المنصوص عليها في هذا العهد بريئة من أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي أو غير السياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب".
حيث نصت المادة ( 2 ) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ في 16 كانون الأول/ديسمبر 1966 . وبدأ تاريخ النفاذ في كانون الثاني/يناير 1976.على حضر التمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.
وتحظر كل من ديباجة ميثاق الأمم المتحدة، والمادتان 1 (الفقرة 3) و55 منه، وكذلك الفقرة 1 من المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التمييز في التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتتضمن المعاهداتُ الدولية المتعلقة بالتمييز العنصري وبالتمييز ضد المرأة وبحقوق اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية وبحقوق الطفل والعمال المهاجرين وأفراد أسرهم والأشخاص ذوي الإعاقة ممارسة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بينما تقتضي معاهدات أخرى القضاء على التمييز في مجالات بعينها، كالتوظيف والتعليم. وبالإضافة إلى الحكم المتعلق بالمساواة وعدم التمييز المشترك بين كل من هذا العهد والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فإن المادة 26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تشكّل ضماناً قائماً بذاته بتوفير حماية متساوية وفعالة أمام القانون.
واشارات اللجنة في ذات التعليق الى إن الالتزام بعدم التمييز هو التزام فوري وشامل في العهد. فالفقرة 2 من المادة 2 تقضي بأن تضمن الدول الأطراف عدم التمييز بين الأشخاص في ممارسة كل حق من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في العهد وبأنه لا يمكن تطبيق العهد إلاّ بممارسة هذه الحقوق. وتجدر الإشارة إلى أن التمييز يتمثل في أي تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل، أو غير ذلك من أوجـه المعاملة التفاضليـة المبنية بشكل مباشر أو غير مباشر على أسباب تمييز محظورة، بقصد إبطـال أو إضعاف الإقـرار بالحقوق المنصوص عليها في العهد أو التمتع بها أو ممارستها على قـدم المساواة، أو بما يؤدي إلى ذلك. ويشمـل التمييز أيضـاً التحريض على التمييز والمضايقة.وحتى "تضمن" الدول الأطراف ممارسة الحقوق المنصوص عليها في العهد دون أي تمييز من أي نوع، فإنه يجب القضاء على التمييز شكلاً وموضوعاً. فالتمييز الشكلي يتطلب القضاء على التمييز الشكلي ضمان خلو دستور الدولة وقوانينها ووثائق سياساتها من التمييز لأسباب محظورة؛ مثلاً، ينبغي ألاّ تحرم القوانين النساء من الاستفادة على قدم المساواة مع الرجال من استحقاقات الضمان الاجتماعي استناداً إلى حالتهن الاجتماعية؛ واما فيما يتعلق بالتمييز الموضوعي فإن التصدي للتمييز الشكلي وحده لن يكفل المساواة الموضوعية بالمعنى المقصود والمحدَّد في الفقرة 2 من المادة 2. فكثيراً ما يتأثر التمتع الفعلي بالحقوق المنصوص عليها في العهد بانتماء الشخص إلى مجموعة تتوفر فيها أسباب التمييز المحظورة. ويتطلب القضاء على التمييز في الواقع العملي إيلاء العناية الكافية لمجموعات الأفراد التي تعاني من تحيّز تاريخي أو مستمر بدلاً من مجرد المقارنة بالمعاملة الشكلية التي يتلقاها أفراد في حالات مشابهة. ولذلك السبب، يجب على الدول الأطراف أن تعتمد على الفور التدابير الضرورية للحيلولة دون نشوء الظروف والمواقف التي تسبب أو تديم التمييز الموضوعي أو الفعلي، ولتخفيف تلك الظروف، أو المواقف أو التخلص منها. فمثلاً، سيساعد ضمان مساواة جميع الأفراد في الحصول على السكن اللائق والمياه والمرافق الصحية على القضاء على التمييز ضد النساء والأطفال البنات والأشخاص الذين يعيشون في مستوطنات غير رسمية وفي المناطق الريفية.
ولا تحترم المؤسسات الخاصة أسباب التمييز المحظورة وتنتهك المبادئ الأساسية لعدم التمييز في قانون حقوق الإنسان: فالأصل القومي أو الوضع الاقتصادي أو الثروة أو النسب هي العناصر الحاسمة في الوصول إلى المدارس الخاصة. ولخصخصة التعليم تبعات أيضاً على حق البنات في التعليم، كون الأسر تعطي الأولوية لتعليم الأولاد على حساب البنات. وخصخصة التعليم يشجع في الواقع على التمييز الطبقي.
ثانيا : تكافؤ فرص الحصول على التعليم
توسع الخصخصة أوجه التفاوت في الحصول على التعليم. وتتجاهل المؤسسات الخاصة المبدأ الأساسي لتكافؤ فرص الحصول على التعليم الذي يمثل قاسماً مشتركاً بين جلّ المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان وستتفاقم التفاوتات في فرص الحصول على التعليم بزيادة عدد المؤسسات التعليمية الخاصة غير المنظمة، إذ بات الوضع الاقتصادي أو الثروة أو الممتلكات أهم شروط الحصول على التعليم.. وتلتزم الدولة بألا تؤدي حرية تقديم التعليم المنصوص عليها في المادة 13(4) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى تفاوتات شديدة في فرص الحصول على التعليم بالنسبة إلى بعض شرائح المجتمع. ووفقاً لقرار مجلس حقوق الإنسان 17/3، ينبغي للدول أن تُعمل الحق في التعليم إعمالاً كاملاً بطرق منها تعزيز تكافؤ الفرص في التعليم وفقاً لالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان.
وفي هذا الصدد هناك سمتان في المادة 13 تتطلبان التأكيد، فأولاً من الواضح أن المادة 13 تعتبر أن الدولة هي التي تتحمل المسؤولية الرئيسية عن التقديم المباشر للتعليم في معظم الظروف، وعلى سبيل المثال تقر الدول الأطراف بضرورة "إنشاء شبكة مدرسية على جميع المستويات" (المادة 13(2)(ه))، وثانياً بالنظر إلى اختلاف صياغة المادة 13(2) في الحديث عن التعليم الابتدائي والثانوي والعالي والتربية الأساسية فإن مقاييس التزام الدولة الطرف بأداء (توفير) التعليم ليس واحداً في كل مستويات التعليم. وبالتالي وعلى ضوء نص العهد تلتزم الدول الأطراف التزاماً قوياً بأداء (توفير) الحق في التعليم، لكن مدى هذا الالتزام ليس موحداً بين كل مستويات التعليم. وتلاحظ اللجنة أن هذا التفسير للالتزام بالأداء (التوفير) في المادة 13 يتوافق مع القوانين والممارسات في كثير من الدول الأطراف.
ثالثا : العدالة الاجتماعية والمساواة
يستخدم التعليم أداة من أجل "تعزيز التنمية والعدالة الاجتماعية وغير ذلك من حقوق الإنسان. وتقوض الخصخصة مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يقع في صلب الرسالة العالمية للأمم المتحدة لتعزيز التنمية وصون كرامة الإنسان. والمدارس الخاصة المنخفضة الرسوم "إذ تعطي الأفضلية لبعض الناس دون غيرهم في الحصول على التعليم، لا تعوق العدالة الاجتماعية في مجال التعليم فحسب، بل تعرقلها بواسطة التعليم" لأن سبب وجود هذه المدارس يتمثل في "طلب مقابل نقدي للحصول" على التعليم. ويؤدي ذلك إلى تفاقم الفوارق من خلال الإقصاء الهيكلي لبعض الفئات وتكريس رؤية ليبرالية جديدة للمجتمع.
وفي الوثيقة الختامية لمؤتمر الأمم المتحدة بشأن التنمية المستدامة وعنوانها "المستقبل الذي نصبو إليه" (قرار الجمعية العامة 66/288 ) ، شدّدت الجمعية العامة على أهمية الحق في تعليم جيد وأعربت عن إصرار المجتمع الدولي على العمل من أجل بلوغ عالم عادل ومنصف وشامل للجميع. ويرى المقرر الخاص أنه من الصعب التوفيق بين هذه الرؤية والتبعات الاجتماعية لخصخصة التعليم. ومالم تصبح السياسات الاجتماعية عامل تغيير سعياً إلى إرساء عدالة قائمة على (إعادة) التوزيع، فإن التقدم نحو بلوغ الأهداف الإنمائية معرض للخطر مع احتمال اندلاع نزاعات عنيفة.
رابعا : حماية التعليم وتعزيزه باعتباره منفعة عامة
تؤثر الخصخصة سلباً في التعليم لأنها "تعيد تصنيف التعليم لا كمنفعة عامة أو مجتمعية تقوم على مبدأين ديمقراطيين هما العدالة وتكافؤ الفرص وإنما كمنفعة خاصة فردية ومفتتة وشخصية". وتتجاهل المدارس الخاصة والهادفة إلى الربح القوانين والمعايير وتقوض التعليم باعتباره منفعة مجتمعية.
وشدد المقرّر الخاص السابق مراراً على أهمية حماية التعليم باعتباره منفعة عامة وشجّع في الوقت ذاته الرأي القائل إن الدولة هي ضامنة التعليم الجيد باعتباره منفعة عامة. ويشكل فهم الدور المتعدد الجوانب للدولة في التعليم شرطاً مسبقاً لإجراء تحليل انتقادي للمؤسسات التعليمية ولمسؤوليتها عن الحفاظ على التعليم وتعزيزه باعتباره منفعة عامة.
وينبغي أن يشكل الحفاظ على التعليم باعتباره منفعة عامة هاجساً رئيسياً عند النظر في التوصيات والتحليلات المعروضة في التقرير المقدم من لجنة الخبراء الحكومية المعنية بتمويل التنمية المستدامة إلى الجمعية العامة في دورتها التاسعة والستين (A/69/315).
ويرى المقرر الخاص السابق الى ضرورة الغاء التعليم الخاص لأن التعليم الهادف الى الربح يتعارض مع مفهوم التعليم باعتباره منفعة عامة، ويود المقرر الخاص الإشارة إلى التشريعات الوطنية المطبقة في بلدان عديدة تحظر المدارس الهادفة إلى الربح. فعلى سبيل المثال، ينص قانون التعليم في جزر البهاما على أن "إنشاء المدارس أو الحفاظ عليها لا يكون بغرض أن يحقق أي شخص أو أشخاص ربحاً خاصاً". وفي قطر، يشترط على المدارس الخاصة أن تحصل على إذن من المجلس الأعلى للتعليم وأن "لا تكون موجهة نحو الربح". وينص قانون التعليم في الصين على أنه "يجب أن تتوافق الأنشطة التعليمية مع المصلحة العامة للدولة والمجتمع" وعلى أنه "لا يمكن لأي منظمة أو فرد إدارة مدرسة أو أي مؤسسة تعليمية من نوع آخر بهدف تحقيق الربح". وتولي السياسات والتشريعات الوطنية في فنلندا أهمية قصوى للتعليم باعتباره وظيفة عامة من وظائف الدولة وباعتباره منفعة عامة. وينص القانون في فنلندا على أنه "لا يجوز تقديم التعليم الأساسي من أجل تحقيق مكاسب مالية"
ويحظر التعليم الهادف إلى الربح بموجب القانون في بعض البلدان حيث يعتبر توفير التعليم الأساسي التزاماً دستورياً كما هو الحال في البرازيل وجنوب أفريقيا. ويشيد المقرّر الخاص السابق بجميع البلدان التي تحظر التعليم الهادف إلى الربح ويناشد جميع البلدان إلغاء هذا النوع من التعليم. ويعتبر المقرّر الخاص السابق أن من الضروري تعميم هذا الإلغاء في التشريعات والسياسات العامة وإنشاء آليات إشراف فعالة.
ومن اهم ما توصل اليه المقرر الخاص السابق المعني بالحق في التعليم الى مدى قابلية عمليات مؤسسات التعليم الخاصة للتقاضي. حيث اشار الى ان الآليات الدولية والإقليمية لرصد حقوق الإنسان لاحظت أن الدول ملزمة بحماية الأفراد من انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الأطراف الخاصة. وينبغي أن ينص القانون على نحو محدد وواضح على المسؤولية العامة للمدارس الخاصة وعلى إتاحة سبل الانتصاف من قراراتها والطعن فيها. ويندرج الدور التنظيمي للدولة بوضوح في إطار الالتزام بتوفير الحماية. وتمكّن القوانين الموجودة من فهم الالتزامات التي يفرضها الحق في التعليم على المؤسسات الخاصة فهماً أفضل. حيث قضى عدد من الأحكام الصادرة حول العالم بأن مؤسسات التعليم الخاصة مسؤولة أمام الدولة والجمهور. وخلصت المحكمة العليا لنيبال إلى أن الرسوم التي تطلبها مؤسسات التعليم الخاصة تزيد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. وقضت بأنه يتعين على السلطات التعليمية وضع برامج إصلاحية لتنظيم المدارس الخاصة تشمل: تنظيم الرسوم وحظر بيع الكتب غير المسجلة والباهظة الثمن والحدّ من عدد المدارس الخاصة المعتمدة.
وفي قضية أخرى، خلصت المحكمة الدستورية لجنوب أفريقيا إلى أن الالتزام الإيجابي الرئيسي إزاء احترام الحق في التعليم يقع على عاتق الدولة وأن مؤسسات التعليم الأساسي يجب ألا تنتهك حق الطلاب في التعليم.
وفي قرار تاريخي، قضت المحكمة العليا للهند بأن تقوم الحكومة، عند منح الاعتراف لمؤسسات التعليم الخاصة، بإنشاء وكالة تفي بالتزامها بتمكين المواطنين من التمتع بحقهم في التعليم: "فطلب رسوم فردية مقابل الالتحاق بالمؤسسات التعليمية هو حرمان صريح للمواطن من حقه في التعليم بموجب الدستور".
وقضت المحكمة الدستورية لكولومبيا في عام 1997 بأن استبعاد الأطفال من المدارس على أساس اقتصادي ليس إلا انتهاكاً لتمتعهم بالحق في التعليم. وقضت المحكمة أيضاً بأن المدارس الخاصة مقيدة بالتزامات دستورية محدّدة لأن الحق في التعليم له طابع أساسي.
وقضت المحاكم في الولايات المتحدة أيضاً بأن استخدام المال العام لتمويل قسائم رسوم التعليم الخاص إجراء غير دستوري وبأن هذه الأموال ينبغي إنفاقها على المدارس العامة.
ولا بد من وضع نظم قضائية مستقلة وآليات مستقلة لحقوق الإنسان لضمان إنفاذ القوانين واللوائح. ومن المهم أيضاً أن يكون القضاة على دراية جيدة بالالتزامات الدولية للدولة فيما يتعلق بالحق في التعليم. وينبغي إشهار اللوائح المتعلقة بالمؤسسات الخاصة على نطاق واسع للتعريف بها أكثر، لا سيما في صفوف الوالدين والمعلمين وأعضاء ومنظمات المجتمع المحلي، وينبغي أن تسمح هذه اللوائح لأي كيان أو فرد إقامة دعاوى قانونية في حالات الممارسات المخلة أو غير القانونية التي ترتكبها المؤسسات الخاصة. ومن المهم أيضا دعم دعوى الحق العام لحماية الحق في التعليم من قوى الخصخصة.
المراجع :
العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية https://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/CESCR.aspx
التعليق العام رقم 13 https://tbinternet.ohchr.org/_layouts/15/treatybodyexternal/Download.aspx?symbolno=E%2fC.12%2f1999%2f10&Lang=en
تقرير المقرر الخاص المعني بالتعليم 2015 https://www.un.org/en/ga/search/view_doc.asp?symbol=A/70/342&Lang=A
تقرير المقرر الخاص المعني بالتعليم 2017 https://documents-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N17/303/22/PDF/N1730322.pdf?OpenElement
تقرير المقرر الخاص المعني بالتعليم 2019 https://documents-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/G19/104/08/PDF/G1910408.pdf?OpenElement
تقرير المقرر الخاص المعني بالتعليم 2020 https://undocs.org/ar/A/HRC/44/39
لست مصرحا لإكمال مشاهدة باقي الدروس ,هل تريد طلب الحضور؟